كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أَحَدُهُمَا مَا قَدَّمْنَاهُ وَالثَّانِي أَنَّهُ يَتَعَرَّفُ بِمَا أُضِيفَ إلَيْهِ إذَا كَانَ مَعْرِفَةً.
فَيُلْحَظُ فِيهِ أَنَّ الْمَوْصُوفَ صَارَ مَعْرُوفًا بِهَذَا الْوَصْفِ وَكَانَ تَقْيِيدُهُ بِالزَّمَانِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ.
وَهَذَا الْوَجْهُ غَرِيب وَهُوَ مَوْجُود فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ، وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى: مِنْ كَوْنِهِ رَبًّا مَالِكًا لِلْعَالَمِينَ، وَلَا تَخْرُجُ مِنْهُمْ يَعْنِي عَنْ مَلَكُوتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ مُنْعِمًا بِالنِّعَمِ كُلِّهَا الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ الْجَلِيلَةِ الدَّقِيقَةِ مَالِكًا لِلْأَمْرِ كُلِّهِ فِي الْعَاقِبَةِ يَوْمَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بَعْدَ الدَّلَالَةِ عَلَى اخْتِصَاصِ الْمَدِّ بِهِ وَأَنَّهُ بِهِ حَقِيق فِي قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَاتُهُ لَمْ يَكُنْ أَحَد أَحَقَّ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ إيَّا ضَمِيرُ نَصْبٍ مُنْفَصِلٍ وَالْكَافُ لِلْخِطَابِ لَا مَحَلَّ لَهَا وَلَيْسَ بِمُشْتَقٍّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَتَقْدِيمُهُ لِلِاعْتِنَاءِ أَوْ لِلِاخْتِصَاصِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ.
وَالْعِبَادَةُ أَقْصَى غَايَةِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ وَمَعْنَاهُ بِالتَّشْدِيدِ عَيْنُ مَعْنَاهُ بِالتَّخْفِيفِ: {عَبَّدْت بَنِي إسْرَائِيلَ} ذَلَّلْتهمْ وَعَبَدْتُ اللَّهَ ذَلَلْتُ لَهُ.
وَفُسِّرَتْ أَيْضًا بِالتَّوْحِيدِ، أَوْ الطَّاعَةِ، أَوْ الدُّعَاءِ.
وَإِيَّاكَ الْتِفَات مِنْ الْغَيْبَة إلَى الْخِطَابِ؛ لِيَكُونَ الْخِطَابُ أَدَلُّ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ لَهُ لِذَلِكَ التَّمْيِيزِ بِالصِّفَاتِ الْعِظَامِ، فَخُوطِبَ ذَلِكَ الْمَعْلُومُ الْمُتَمَيِّزُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَتَوْطِئَةً لِلدُّعَاءِ.
وَالنُّونُ فِي: {نَعْبُدُ} لِإِفَادَةِ أَنَّ الْعِبَادَةَ تَسْتَغْرِقُ الْمُتَكَلِّمَ وَغَيْرَهُ، كَمَا أَنَّ الْحَمْدَ يَسْتَغْرِقُهُ.
وَكَرَّرَ: {إيَّاكَ} لِيَكُونَ كُلّ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالاستعانة نَسَقًا فِي جُمْلَتَيْنِ، وَكُلّ مِنْهُمَا مَقْصُود وَلِلتَّنْصِيصِ عَلَى طَلَبِ الْعَوْنِ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَنَسْتَعِينُ} فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ، قَالُوا: وَفِي: {نَعْبُدُ} رَدّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ وَفِي: {نَسْتَعِينُ} رَدّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ.
وَفِي: {إيَّاكَ} رَدّ عَلَى الدَّهْرِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ وَالْمُنْكَرِينَ لِوُجُودِ الصَّانِعِ.
وَتَقْدِيمُ الْعِبَادَةِ عَلَى الاستعانة كَتَقْدِيمِ الْوَسِيلَةِ بَيْنَ يَدَيْ الْحَاجَةِ وَأُطْلِقَا لِتَتَنَاوَلَ كُلَّ عِبَادَةٍ وَكُلَّ اسْتِعَانَةٍ.
وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُرَادَ الاستعانة بِهِ عَلَى أَدَاءِ الْعِبَادَةِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: {اهْدِنَا} بَيَانًا لِلْمَطْلُوبِ مِنْ الْمَعُونَةِ؛ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ أُعِينُكُمْ؟ فَقَالُوا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وَالْهِدَايَةُ الْإِرْشَادُ وَالدَّلَالَةُ أَوْ التَّبْيِينُ أَوْ التَّقْدِيمُ أَوْ الْإِلْهَامُ أَوْ السَّبَبُ.
وَالْأَصْلُ في {هَدَى} أَنْ يَتَعَدَّى إلَى ثَانِي مَفْعُولَيْهِ بِالْحَرْفِ ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فَعُدِّيَ بِنَفْسِهِ إلَيْهِ.
وَالصِّرَاطَ جَادَّةُ الطَّرِيقِ وَأَصْلُهُ بِالسِّينِ مِنْ السَّرْطِ وَهُوَ اللَّقْمُ وَقَرَأَ بِالسِّينِ عَلَى الْأَصْلِ قُنْبُلُ وَرُوَيْس وَبِإِبْدَالِ السِّينِ صَادًا الْجُمْهُورُ وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ.
وَبِهَا كُتِبَتْ فِي الْإِمَامِ وَبِإِشْمَامِهَا زَايًا حَمْزَةُ بِخِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ عَنْ رُوَاتِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرَةَ بِالسِّينِ وَبِالصَّادِ وَالْمُضَارَعَةُ بَيْنَ الزَّايِ وَالصَّادِ وَالزَّايِ خَالِصَة وَأَنْكَرْت عَنْهُ.
وَالصِّرَاطُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَيُجْمَعُ فِي الْكَثْرَةِ عَلَى صُرُطٍ.
وَفِي الْقِلَّةِ قِيَاسُهُ أَصْرِطَة، إنْ ذُكِّرَ، وَصُرُط إنْ أُنِّثَ.
وَالْمُرَادُ هُنَا طَرِيقُ الْحَقِّ.
وَهُوَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ، أَوْ الْقُرْآنُ؛ أَوْ الْإِيمَانُ وَتَوَابِعُهُ، أَوْ الْإِسْلَامُ وَشَرَائِعُهُ، أَوْ السَّبِيلُ الْمُعْتَدِلُ أَوْ طَرِيقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؛ أَوْ السُّنَنُ أَوْ طَرِيقُ الْجَنَّةِ أَوْ طَرِيقُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَوْ طَرِيقُ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، أَوْ جِسْرُ جَهَنَّمَ.
وَرُدَّ بَعْضُ الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ {صراط الذين أنعمت عليهم} وَهُمْ مُتَقَدِّمُونَ، وَفِي تَفْسِيرِ: {الَّذِينَ أَنْعَمْت} خِلَاف سَيَأْتِي.
وَبِهِ يَتَّضِحُ الرَّدُّ أَوْ عَدَمُهُ.
{الْمُسْتَقِيمَ} الْمُسْتَوِي مِنْ غَيْرِ اعْوِجَاجٍ.
النِّعْمَةُ لِينُ الْعَيْشِ وَخَفْضُهُ.
وَالْهَمْزَةُ فِي: أَنْعَمَ لِجَعْلِ الشَّيْءِ صَاحِبَ مَا صُنِعَ مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ ضَمِنَ مَعْنَى التَّفْضِيلِ فَعُدِّيَ بِعَلَى.
وَأَصْلُهُ التَّعَدِّيَةُ بِنَفْسِهِ.
وَهَذَا أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي لِأَفْعَلَ وَهِيَ أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ مَعْنًى.
{عَلَيْهِمْ} عَلَى حَرْف عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ إلَّا إذَا جُرَّتْ بِمِنْ.
وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا إذَا جُرَّتْ ظَرْف.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ، وَالْجُمْهُورُ بِكَسْرِهَا وَإِسْكَانِ الْمِيمِ وَابْنُ كَثِيرٍ وقالون بِخِلَافٍ عَنْهُ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ بِوَاوٍ بَعْدَهَا.
وَمِنْ غَرِيبِ الْمَنْقُولِ أَنَّ الصِّرَاطَ الثَّانِيَ لَيْسَ الْأَوَّلَ.
وَكَأَنَّهُ نَوَى فِيهِ حَرْفَ الْعَطْفِ وَفِي تَعْيِينِ ذَلِكَ اخْتِلَاف، قِيلَ هُوَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ وَالْفَهْمُ عَنْهُ وَقِيلَ الْتِزَامُ الْفَرَائِضِ وَاتِّبَاعُ السُّنَنِ.
وَقِيلَ مُوَافَقَةُ الْبَاطِنِ لِلظَّاهِرِ.
وَالْمُنْعَمُ عَلَيْهِمْ هُنَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُمَّةُ مُوسَى وَعِيسَى الَّذِينَ لَمْ يُغَيِّرُوا أَوَامِرَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ، أَوْ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ قَالَهُ الْجُمْهُورُ؛ أَوْ الْمُؤْمِنُونَ أَوْ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يُقَيِّدْ الْإِنْعَامَ لِيَذْهَبَ الذِّهْنُ كُلَّ مَذْهَبٍ وَاخْتُلِفَ هَلْ لِلَّهِ عَلَى الْكُفْرِ نِعْمَة؟ فَأَثْبَتَهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَنَفَاهَا غَيْرُهُمْ.
وَبِنَاءُ أَنْعَمْتَ لِلْفَاعِلِ اسْتِعْطَاف لِقَبُولِ التَّوَسُّلِ بِالدُّعَاءِ فِي الْهِدَايَةِ وَانْقِلَابُ أَلْفِ عَلَى مَعَ الْمُضْمَرِ هِيَ اللُّغَةُ الشُّهْرَى.
{غَيْرِ} وَصْف عِنْدَ سِيبَوَيْهِ.
وَبَدَل مِنْ الَّذِينَ عِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ، وَمِنْ الضَّمِيرِ عِنْدَ قَوْمٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ النِّعْمَةِ الْمُطْلَقَةِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَبَيْنَ السَّلَامَةِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَالضَّلَالِ.
وَأَصْلُ {غَيْرِ} الْوَصْفُ وَيُسْتَثْنَى بِهِ وَلَا يَتَعَرَّفُ.
وَمَذْهَبُ ابْنِ السَّرَّاجِ إذَا كَانَ الْمُغَايَرُ وَاحِدًا تَعَرَّفَ بِإِضَافَتِهِ إلَيْهِ.
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ كُلَّ مَا إضَافَتُهُ غَيْرُ مَحْضَةٍ قَدْ يُقْصَدُ بِهَا التَّعْرِيفُ فَتَصِيرُ مَحْضَةً فَتَتَعَرَّفُ إذْ ذَاكَ غَيْرُ بِمَا تُضَافُ إلَيْهِ إذَا كَانَ مَعْرِفَةً.
وَاعْتَذَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ الْوَصْفِ بِغَيْرِ بِأَنَّ الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ لَا تَوْقِيتَ فَهُوَ كَقَوْلِهِ:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي

وَهُوَ ضَعِيف، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تُنْعَتُ إلَّا بِالْمَعْرِفَةِ وَبِأَنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ خِلَافُ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، فَلَيْسَ فِي غَيْرِ إذْنِ الْإِبْهَامِ الَّذِي يَأْبَى عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَرَّفَ.
و{لَا} فِي: {وَلَا الضَّالِّينَ} لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ الَّذِي فِي غَيْرِ، وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمَ بِتَرْكِهَا عَطْفُ الضَّالِّينَ عَلَى الَّذِينَ.
وَالْغَضَبُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إرَادَةُ الِانْتِقَامِ مِنْ الْعَاصِي، وَقِيلَ: إرَادَةُ صُدُورِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ.
فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، أَوْ إحْلَالِ الْعُقُوبَةِ بِهِ فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ.
وَقَدَّمَ الْغَضَبَ عَلَى الضَّلَالِ وَإِنْ كَانَ الْغَضَبُ مِنْ نَتِيجَةِ الضَّلَالِ لِمُجَاوَرَةِ الْإِنْعَامِ.
لِأَنَّ الْإِنْعَامَ مُقَابَل بِالِانْتِقَامِ فَبَيْنَهُمَا طِبَاق مَعْنَوِيّ وَلِيُنَاسِبَ التَّسْجِيعَ فِي آخِرِ السُّورَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ كَلَام فِي: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَنَحْوِهِمَا فِيمَا يُقَدَّمُ فِيهِ ذِكْرُ الْمَعْمُولِ.
قَدْ اشْتَهَرَ كَلَامُ النَّاسِ فِي أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَقُولُ إنَّهَا تُفِيدُ الِاهْتِمَامَ.
وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ وَهُمْ يُقَدِّمُونَ مَا هُمْ بِهِ أَعَنَى وَالْبَيَانِيُّونَ عَلَى إفَادَتِهِ الِاخْتِصَاصَ وَالْحَصْرَ، فَإِذَا قُلْت: زَيْدًا ضَرَبْت، نَقُولُ مَعْنَاهُ مَا ضَرَبْت إلَّا زَيْدًا.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَإِنَّمَا الِاخْتِصَاصُ شَيْء وَالْحَصْرُ شَيْء آخَرُ.
وَالْفُضَلَاءُ لَمْ يَذْكُرُوا فِي ذَلِكَ لَفْظَةَ الْحَصْرِ.
وَإِنَّمَا قَالُوا الِاخْتِصَاصُ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قوله تعالى: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ لِقَصْدِ الِاخْتِصَاصِ لِقوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} مَعْنَاهُ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَعْبُدُ بِأَمْرِكُمْ. وَقَالَ فِي قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} الْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ أَيْ مُنْكِر أَنْ أَبْغِيَ رَبًّا غَيْرَهُ، وَقَالَ فِي قوله تعالى: {قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} أَنَّهُ أَمْر بِالْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ يَخْتَصُّ اللَّهَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ بِعِبَادَتِهِ مُخْلِصًا لَهُ دِينَهُ.
وَقَالَ فِي: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} قَدَّمَ الْمَفْعُولَ الَّذِي هُوَ غَيْرَ دَيْنِ اللَّهِ عَلَى فِعْلِهِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْإِنْكَارَ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْهَمْزَةِ مُتَوَجِّه إلَى الْمَعْبُودِ بِالْبَاطِلِ وَقَالَ فِي قوله تعالى: {أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} إنَّمَا قَدَّمَ الْمَفْعُولَ عَلَى الْفِعْلِ لِلْعِنَايَةِ وَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ لَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ الْأَهَمَّ عِنْدَهُ أَنْ يُكَافِحَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى إفْكٍ وَبَاطِلٍ فِي شِرْكِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ {إفْكًا} مَفْعُولًا بِهِ يَعْنِي أَتُرِيدُونَ إفْكًا ثُمَّ فَسَّرَ الْإِفْكَ بِقَوْلِهِ: {آلِهَةً دُونَ اللَّهِ} عَلَى أَنَّهَا إفْك فِي أَنْفُسِهَا وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا.
فَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا لَمْ يَذْكُرْ الزَّمَخْشَرِيُّ لَفْظَةَ الْحَصْرِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا.
وَلَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْآيَةِ الْأُولَى فَقَطْ.
وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ فِي الْآيَاتِ الِاهْتِمَامُ.
وَيَأْتِي الِاخْتِصَاصُ فِي أَكْثَرِهَا.
وَمِثْلُ قوله تعالى: {أَإِفْكًا آلِهَةً} وقوله تعالى: {أَهَؤُلَاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} وَمَا أَشْبَهَهُمَا لَا يَأْتِي فِيهِ إلَّا الِاهْتِمَامُ لِأَنَّ ذَلِكَ مُنْكَر مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ.
وَقَدْ يَتَكَلَّفُ بِمَعْنَى الِاخْتِصَاصِ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي بَقِيَّةِ الْآيَاتِ.
وَأَمَّا الْحَصْرُ فَلَا.
فَإِنْ قُلْت: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ؟ قُلْت: الِاخْتِصَاصُ افْتِعَال مِنْ الْخُصُوصِ.
وَالْخُصُوصُ مُرَكَّب مِنْ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَامّ مُشْتَرَك بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ.
وَالثَّانِي: مَعْنًى مُنْضَمّ إلَيْهِ يَفْصِلُهُ عَنْ غَيْرِهِ كَضَرْبِ زَيْدٍ فَإِنَّهُ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الضَّرْبِ.
فَإِذَا قُلْت ضَرَبْت زَيْدًا أَخْبَرْت بِضَرْبٍ عَامٍّ وَقَعَ مِنْك عَلَى شَخْصٍ فَصَارَ ذَلِكَ الضَّرْبُ الْمَخْبَرُ بِهِ خَاصًّا لِمَا انْضَمَّ إلَيْهِ مِنْك وَمِنْ زَيْدٍ.
وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ أَعْنِي مُطْلَقَ الضَّرْبِ وَكَوْنَهُ وَاقِعًا مِنْك.
وَكَوْنَهُ وَاقِعًا عَلَى زَيْدٍ قَدْ يَكُونُ قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا ثَلَاثَتُهَا عَلَى السَّوَاءِ، وَقَدْ يَتَرَجَّحُ قَصْدُهُ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ.
وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِمَا ابْتَدَأَ بِهِ كَلَامَهُ.
فَإِنَّ الِابْتِدَاءَ بِالشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهِ وَأَنَّهُ هُوَ الْأَرْجَحُ فِي غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ.
فَإِذَا قُلْت زَيْدًا ضُرِبَ عُلِمَ أَنَّ خُصُوصَ الضَّرْبِ عَلَى زَيْدٍ هُوَ الْمَقْصُودُ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ مِنْ خَاصٍّ وَعَامٍّ لَهُ جِهَتَانِ.
فَقَدْ يُقْصَدُ مِنْ جِهَةِ عُمُومِهِ.
وَقَدْ يُقْصَدُ مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهِ فَقَصْدُهُ مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهِ هُوَ الِاخْتِصَاصُ وَأَنَّهُ هُوَ الْأَعَمُّ الْأَهَمُّ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ.
وَهُوَ الَّذِي أَفَادَ بِهِ السَّامِعُ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ وَلَا قَصْدٍ لِغَيْرِهِ بِإِثْبَاتٍ وَلَا نَفْيٍ.
وَأَمَّا الْحَصْرُ فَمَعْنَاهُ نَفْيُ غَيْرِ الْمَذْكُورِ وَإِثْبَاتُ الْمَذْكُورِ.
وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِمَا وَإِلَّا، أَوْ بِإِنَّمَا.
فَإِذَا قُلْت: مَا ضَرَبْتُ إلَّا زَيْدًا كُنْتَ نَفَيْتَ الضَّرْبَ عَنْ غَيْرِ زَيْدٍ وَأَثْبَتَّهُ لِزَيْدٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى زَائِد عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا فِي: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يُعْبَدُ غَيْرُ اللَّهِ وَلَا يُسْتَعَانُ غَيْرُهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ بَقِيَّةَ الْآيَاتِ لَمْ يَطَّرِدْ فِيهَا ذَلِكَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} فِي مَعْنَى مَا يَبْغُونَ إلَّا غَيْرَ دَيْنِ اللَّهِ.
وَهَمْزَةُ الْإِنْكَارِ دَاخِلَة عَلَيْهِ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ الْحَصْرُ؛ لَا مُجَرَّدُ بَغْيِهِمْ غَيْرَ دَيْنِ اللَّهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُجَرَّدَ بَغْيِهِمْ غَيْرَ دَيْنِ اللَّهِ مُنْكَر، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْآيَاتِ إذَا تَأَمَّلْتهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} وَقَعَ الْإِنْكَارُ فِيهِ عَلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ وَأَنْ أَبْغِيَ رَبًّا غَيْرَهُ مُنْكَر مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ، وَلَكِنَّ الْخُصُوصَ وَهُوَ غَيْرُ اللَّهِ هُوَ الْمُنْكَرُ وَحْدَهُ وَمَعَ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ: {إيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} عِبَادَتُهُمْ إيَّاهُمْ مُنْكَرَة مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ؛ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} الْمُنْكَرُ إرَادَتُهُمْ آلِهَةً دُونَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ؛ فَمِنْ هَذَا كُلِّهِ يُعْلَمُ أَنَّ الْحَصْرَ فِي: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مِنْ خُصُوصِ الْمَادَّةِ لَا مِنْ مَوْضُوعِ اللَّفْظِ، بَلْ أَقُولُ إنَّ الْمُصَلِّيَ قَدْ يَكُونُ مُقْبِلًا عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا يَعْرِضُ لَهُ اسْتِحْضَارُ غَيْرِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ.